تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 337 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 337

337 : تفسير الصفحة رقم 337 من القرآن الكريم

** أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنّ اللّهَ عَلَىَ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاّ أَن يَقُولُواْ رَبّنَا اللّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ قال العوفي عن ابن عباس: نزلت في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة. وقال مجاهد والضحاك, وغير واحد من السلف كابن عباس ومجاهد وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة وغيرهم: هذه أول آية نزلت في الجهاد, واستدل بهذه الاَية بعضهم على أن السورة مدنية. وقال ابن جرير: حدثني يحيى بن داود الواسطي, حدثنا إسحاق بن يوسف عن سفيان عن الأعمش عن مسلم هو البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن. قال ابن عباس: فأنزل الله عز وجل {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير} قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: فعرفت أنه سيكون قتال. وقال الإمام أحمد عن إسحاق بن يوسف الأزرق به, وزاد: قال ابن عباس وهي أول آية نزلت في القتال. ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما وابن أبي حاتم من حديث إسحاق بن يوسف, زاد الترمذي ووكيع كلاهما عن سفيان الثوري به. وقال الترمذي: حديث حسن, وقدرواه غير واحد عن الثوري وليس فيه ابن عباس.
وقوله: {وإن الله على نصرهم لقدير} أي هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال, ولكن هو يريد من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته, كما قال: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منّاً بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لا نتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض, والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم} وقال تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين, ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم} وقال: {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعلمون} وقال: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} وقال: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} والاَيات في هذا كثيرة.
ولهذا قال ابن عباس في قوله: {وإن الله على نصرهم لقدير} وقد فعل, وإنما شرع تعالى الجهاد في الوقت الأليق به, لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عدداً فلو أمر المسلمين وهم أقل من العشر بقتال الباقين لشق عليهم, ولهذا لما بايع أهل يثرب ليلة العقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانوا نيفاً وثمانين, قالوا: يا رسول الله ألا نميل على أهل الوادي, يعنون أهل منى, ليالي منى فنقتلهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لم أومر بهذا» فلما بغى المشركون وأخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم وهموا بقتله, وشردوا أصحابه شذر مذر, فذهب منهم طائفة إلى الحبشة وآخرون إلى المدينة, فلما استقروا بالمدينة ووافاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعوا عليه, وقاموا بنصره وصارت لهم دار إسلام ومعقلاً يلجئون إليه, شرع الله جهاد الأعداء, فكانت هذه الاَية أول ما نزل في ذلك, فقال تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق} قال العوفي عن ابن عباس: أخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق, يعني محمداً وأصحابه {إلا أن يقولوا ربنا الله} أي ما كان لهم إلى قومهم إساءة, ولا كان لهم ذنب إلا أنهم وحدوا الله وعبدوه لا شريك له, وهذا استثناء منقطع بالنسبة إلى ما في نفس الأمر, وأما عند المشركين فإنه أكبر الذنوب, كما قال تعالى: {يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} وقال تعالى في قصة أصحاب الأخدود: {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيزالحميد} ولهذا لما كان المسلمون يرتجزون في بناء الخندق ويقولون:
اللهم لولا أنت ما اهتديناولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة عليناوثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا عليناإذا أرادوا فتنة أبينا
فيوافقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول معهم آخر كل قافية, فإذا قالوا: * إذا أرادوا فتنة أبينا * يقول: أبينا يمد بها صوته, ثم قال تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض} أي لولا أنه يدفع بقوم عن قوم, ويكف شرور أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدره من الأسباب, لفسدت الأرض ولأهلك القوي الضعيف {لهدمت صوامع} وهي المعابد الصغار للرهبان, قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وعكرمة والضحاك وغيرهم. وقال قتادة: هي معابد الصابئين, وفي رواية عنه: صوامع المجوس, وقال مقاتل بن حيان: هي البيوت التي على الطرق {وبيع} وهي أوسع منها, وأكثر عابدين فيها, وهي للنصارى أيضاً, قاله أبو العالية وقتادة والضحاك وابن صخر ومقاتل بن حيان وخصيف وغيرهم. وحكى ابن جبير عن مجاهد وغيره أنها كنائس اليهود, وحكى السدي عمن حدثه عن ابن عباس أنها كنائس اليهود, ومجاهد إنما قال: هي الكنائس, والله أعلم.
وقوله: {وصلوات} قال العوفي عن ابن عباس: الصلوات الكنائس وكذا قال عكرمة والضحاك وقتادة: إنها كنائس اليهود, وهم يسمونها صلوات. وحكى السدي عمن حدثه عن ابن عباس أنها كنائس النصارى. وقال أبو العالية وغيره: الصلوات معابد الصابئين. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: الصوات مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطرق, وأما المساجد فهي للمسلمين. وقوله: {يذكر فيها اسم الله كثير} فقد قيل: الضمير في قوله يذكر فيها عائد إلى المساجد لأنها أقرب المذكورات. وقال الضحاك: الجميع يذكر فيها اسم الله كثيراً. وقال ابن جرير: الصواب لهدمت صوامع الرهبان وبيع النصارى وصلوات اليهود, وهي كنائسهم, ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيراً, لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب. وقال بعض العلماء: هذا ترق من الأقل إلى الأكثر إلى أن انتهى إلى المساجد وهي أكثر عماراً وأكثر عبادا وهم ذوو القصد الصحيح.
وقوله: {ولينصرن الله من ينصره} كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم}. وقوله: {إن الله لقوي عزيز} وصف نفسه بالقوة والعزة, فبقوته خلق كل شيء فقدره تقديراً, وبعزته لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب, بل كل شيء ذليل لديه فقير إليه, ومن كان القوي العزيز ناصره فهو المنصور وعدوه هو المقهور, قال الله تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون} وقال تعالى: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله لقوي عزيز}.

** الّذِينَ إِنْ مّكّنّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُواْ الصّلاَةَ وَآتَوُاْ الزّكَـاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلّهِ عَاقِبَةُ الاُمُورِ
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو الربيع الزهراني, حدثنا حماد بن زيد عن أيوب وهشام عن محمد قال: قال عثمان بن عفان: فينا نزلت {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} فأخرجنا من ديارنا بغير حق إلا أن قلنا: ربنا الله ثم مكنا في الأرض, فأقمنا الصلاة وآتينا الزكاة, وأمرنا بالمعروف, ونهينا عن المنكر, ولله عاقبة الأمور فهي لي ولأصحابي. وقال أبو العالية: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, وقال الصباح بن سوادة الكندي: سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول: {الذين إن مكناهم في الأرض} الاَية, ثم قال: ألا إنها ليست على الوالي وحده, ولكنها على الوالي والمولى عليه, ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلكم, وبما للوالي عليكم منه ؟ إن لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله عليكم, وأن يأخذ لبعضكم من بعض, وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع, وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكره بها, ولا المخالف سرها علانيتها. وقال عطية العوفي: هذه الاَية كقوله: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض} وقوله: {ولله عاقبة الأمور} كقوله تعالى: {والعاقبة للمتقين}. وقال زيد بن أسلم {ولله عاقبة الأمور} وعند الله ثواب ما صنعوا.

** وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذّبَ مُوسَىَ فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىَ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مّعَطّلَةٍ وَقَصْرٍ مّشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَـَكِن تَعْمَىَ الْقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ
يقول تعالى مسلياً لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من خالفه من قومه: {وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح ـ إلى أن قال ـ وكذب موسى} أي مع ما جاء به من الاَيات البينات والدلائل الواضحات {فأمليت للكافرين} أي أنظرتهم وأخرتهم, {ثم أخذتهم فكيف كان نكير} أي فيكف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم ؟! وذكر بعض السلف أنه كان بين قول فرعون لقومه: أنا ربكم الأعلى, وبين إهلاك الله له أربعون سنة. وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} ثم قال تعالى: {فكأين من قرية أهلكناه} أي كم من قرية أهلكتها {وهي ظالمة} أي مكذبة لرسلها {فهي خاوية على عروشه} قال الضحاك: سقوفها, أي قد خربت وتعطلت حواضرها {وبئر معطلة} أي لا يستقى منها, ولا يردها أحد بعد كثرة وارديها والإزدحام عليها {وقصر مشيد} قال عكرمة يعني المبيض بالجص, وروي عن علي بن أبي طالب ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وأبي المليح والضحاك نحو ذلك. وقال آخرون: هو المنيف المرتفع. وقال آخرون: المشيد المنيع الحصين, وكل هذه الأقوال متقاربة ولا منافاة بينها, فإنه لم يحم أهله شدة بنائه ولا ارتفاعه ولا إحكامه ولا حصانته عن حلول بأس الله بهم كما قال تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة}.
وقوله: {أفلم يسيروا في الأرض} أي بأبدانهم وبفكرهم أيضاً, وذلك كاف كما قال ابن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار: حدثنا هارون بن عبد الله, حدثنا سيار, حدثنا جعفر, حدثنا مالك بن دينار قال: أوحى الله تعالى إلى موسى بن عمران عليه السلام أن يا موسى اتخذ نعلين من حديد وعصا, ثم سح في الأرض, ثم اطلب الاَثار والعبر, حتى يتخرق النعلان وتنكسر العصا. وقال ابن أبي الدنيا: قال بعض الحكماء: أحي قلبك بالمواعظ, ونوره بالتفكر, وموته بالزهد, وقوّه باليقين, وذلله بالموت, وقرره بالفناء, وبصره فجائع الدنيا, وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الأيام, واعرض عليه أخبار الماضين, وذكره ما أصاب من كان قبله, وسيره في ديارهم وآثارهم, وانظر ما فعلوا وأين حلوا وعم انقلبوا, أي فانظروا ما حل بالأمم المكذبة من النقم والنكال {فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون به} أي فيعتبرون بها {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} أي ليس العمى عمى البصر, وإنما العمى عمى البصرة, وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر ولا تدري ما الخبر, وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في هذا المعنى, وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن سارة الأندلسي الشنتريني, وقد كانت وفاته سنة سبع عشرة وخمسمائة:
يا من يصيخ إلى داعي الشقاء وقدنادى به الناعيان الشيب والكبر
إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ترىفي رأسك الواعيان السمع والبصر
ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجللم يهده الهاديان العين والأثر
لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك الـأعلى ولا النيّران الشمس والقمر
ليرحلن عن الدنيا وإن كرهافراقها الثاويان البدو والحضر